فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}.
{سُورَةٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة وأشير إليها بهذه تنزيلًا لها منزلة الحاضر المشاهد، وقوله تعالى: {أنزلناها} مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات على ما ذكره شيخ الإسلام، والقول بجواز أن تكون للتخصيص احترازًا عما هو قائم بذاته تعالى ليس بشيء أصلًا كما لا يخفى.
وجوز أن تكون {سُورَةٌ} مبتدأ محذوف الخبر أي مما يتلى عليكم أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها الخ، وذكر بعضهم أنه قصد من هذه الجملة الامتنان والمدح والترغيب لا فائدة الخبر ولا لازمها وهو كون المخبر عالمًا بالحكم للعلم بكل ذلك، والكلام فيما إذا قصد به مثل هذا إنشاء على ما اختاره في الكشف وهو ظاهر قول الإمام المرزوقي في قوله:
قومي هموا قتلوا أميم أخي ** هذا الكلام تحزن وتفجع

وليس بأخبار، واختار رخرون أن الجملة خبرية مراد بها معناها إلا أنها إنما أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه وإليه ذهب السالكوتي، وأول كلام المرزوقي بأن المراد بالأخبار فيه الإعلام، وتحقيق ذلك في موضعه.
واعترض شيخ الإسلام هذا الوجه بما بحث فيه.
وجوز ابن عطية أن تكون {سُورَةٌ} مبتدأ والخبر قوله تعالى: {الزانية والزانى} [النور: 2] الخ وفيه من البعد ما فيه والوجه الوجيه هو الأول، وعندي في أمثال هذه الجملة أن الإثبات فيها متوجه إلى القيد، وقد ذكر ذلك الشيخ عبد القاهر وهو هنا إنزالها وفرضها، وإنزال آيات بينات فيها لأجل أن يتذكر المخاطبون أو رجوا تذكرهم فتأمل.
وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء {سُورَةٌ} بالنصب على أنها مفعول فعل محذوف أي اتل، وقدر بعضهم اتلوا بضمير الجمع ون الخطابات الآتية بعهد كذلك وليس بلازم لأن الفعل متضمن معنى القول فيكون الكلام حينئذ نظير قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ الله} [آل عمران: 32] ولا شك في جوازه.
وجوز الزمخشري أن تكون نصبًا على الإغراب أي دونك سورة، ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء لضعفها في العمل لما أن عملها بالحمل على الفعل، وكلام ابن مالك يقتضي جوازه وزعم إنه مذهب سيبويه وفيه بحث، وجوز غير واحد كون ذلك من باب الاشتغال وهو ظاهر على مذهب من لا يشترط في المنصوب على الاشتغال صحة الرفع على الابتداء وأما على مذهب من يشترط ذلك فغير ظاهر لأن {سُورَةٌ} نكرة لا مسوغ لها فلا يجوز رفعها على الابتداء، ولعل من يشترط ذلك ويقول بالنصب على الاشتغال هنا يجعل النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل: سورة عظيمة كما قيل في شر أهر ذا ناب.
وقال الفراء: نصب {سُورَةٌ} على أنها حال من ضمير النصب في {أنزلناها} والحال من الضمير يجوز أن يتقدم عليه انتهى، ولعل الضمير على هذا للأحكام المفهومة من الكلام فكأنه قيل: أنزلنا الأحكام سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن وإلى هذا ذهب في البحر، وربما يقال: يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف، و{سُورَةٌ} المذكورة موصوفة بما يدل عليه تنوينها فكأنه قيل: أنزلنا السورة حال كونها سورة عظيمة، ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه الذي لا غبار عليه، وقوله تعالى: {وفرضناها} إما على تقدير مضاف أي فرضنا أحكامها وإما على اعتبار المجاز في الإسناد حيث أسند ما للمدلول للدال لملابسة بينهما.
تشبه الظرفية، ويحتمل على بعد أن يكون ف يالكلام استخدام بأن يراد بسورة معناها الحقيقي وبضميرها معناها المجازي أعني الأحكام المدلول عليها بها، والفرض في الأصل قطع الشيء الصلب والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه فكأنه قيل: أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابًا قطعيًا وفي ذكر ذلك براعة استهلال على ماقيل.
وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير {وفرضناها} بتشديد الراء لتأكيد الإيجاب، والإشارة إلى زيادة لزومه أو لتعدد الفرائض وكثرتها أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف.
وفي الحواشي الشهابية قد فسر {فرضناها} بفصلناها ويجري فيه ما ذكر أيضًا {وفرضناها وَأَنزَلْنَا فِيهَا} أي في هذه السورة {ءايات بَيّنَاتٍ} يحتمل أن يراد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وأمر الظرفية عليه ظاهر، ومعنى كونها بينات وضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها مطلقًا لأنها أسوة لأكثر الآيات في ذلك، وتكرير {أَنزَلْنَا} مع استلزام إنزال السورة إنزالها إبراز كمال العناية بشأنها، ويحتمل أن يراد بها جميع آيات السورة والظرفية حينئذ باعتبار اشتمال الكل على كل واحد من أجزائه، ومعنى كونها بيناته أنها لا أشكال فيها يحوج إلى تأويل كبعض الآيات، وتكرير {أَنزَلْنَا} مع ظهور أن إنزال جميع الآيات عين إنزال السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعًا لمحلها كقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] بعد قوله سبحانه: {نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} والاحتمال الأول أظهر، وقال الإمام: إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعًا من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى: {فرضناها} إشارة إلى الأحكام المبينة أولًا، وقوله سبحانه: {سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها وَأَنزَلْنَا} إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد ويؤيده قوله عز وجل: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكرونها انتهى، وهو عندي وجه حسن، نعم قيل فيما ذكره من التأييد نظر إذ لمن ذهب إلى الاحتمال الأول أن يقول: المراد من التذكر غايته وهو اتقاء المحارم بالعمل بموجب تلك الآيات، ولقائل أن يقول: إن هذا محوج إلى ارتكاب المجاز في التذكرة دون ما ذكره الإمام فإن التذكر عليه على معناه المتبادر ويكفي هذا القدر في كونه مؤيدًا، وأصل {تَذَكَّرُونَ} تتذكرون حذف إحدى التاءين وقرئ بإدغام الثانية منهما في الذال.
{الزانية والزانى} شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها أولًا، ورفع {الزانية} على أنها خبر مبتدأ محذوف والكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل ما يتلى عليكم أو في الفرائض أي المشار إليها في قوله تعالى: {وفرضناها} [النور: 1] حكم الزانية والزاني، والفاء في قوله تعالى: {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} سببية وقيل سيف خطيب، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر جملة {فاجلدوا} الخ، والفاء في المشهور لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام فيه وفيما عطف عليه موصولة أي التي زنت والذي زنى فاجلدوا الخ، وبعضهم يجوز دخول الفاء في الخبر إذ كان في المبتدأ معنى يستحق به أن يترتب عليه الخبر وإن لم يكن هناك موصول كما في قوله:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم

فإن هذه القبيلة مشهورة بالشرف والحسن شهرة حاتم بالسخاء وعنترة بالشجاعة وذلك معنى يستحق به أن يترتب عليه الأمر بالنكاح وعلى هذا يقوى أمر دخول الفاء هنا كما لا يخفى، وقال العلامة القطب: جيء بالفاء لوقوع المبتدأ بعد أما تقديرًا أي أما الزانية والزاني فاجلدوا الخ، ونقل عن الأخفش أنها سيق خطيب، والداعي لسيبويه على ما ذهب إليه ما يفهم من الكتاب كما قيل من أن النهج المألوف في كلام العرب إذا أريد بيان عنى وتفصيله اعتناء بشأنه أن يذكر قبله ماهو عنوان وترجمة له وهذا لا يكون إلا بأن يبني على جملتين فما ذهب إليه في الآية أولى لذلك مما ذهب إليه غيره، وأيضًا هو سالم من وقوع الإنشاء خبرًا والدغدغة التي فيه، وأمر الفاء عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف، وقال أبو حيان: سبب الخلاف أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولًا بما يقبل مباشرة أداة الشرط وغيرهما لا يشترط ذلك.
وقرأ عبد الله {والزان} بلا ياء تخفيفًا.
وقرأ عيسى الثقفى ويحيى بن يعمر وعمرو بن قائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس {تَذَكَّرُونَ الزانية والزانى} بنصبهما على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء على ما قال ابن جني لأن مآل المعنى إلى الشرط والأمر في الجواب يقترن بها فيجوز زيدًا فاضربه لذلك ولا يجوز زيدًا فضربته بالفاء لأنها لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيًا.
والمراد هنا على ما في بعض شروح الكشاف إن أردتم معرفة حكم الزانية والزاني فاجلدوا الخ، وقيل: إن جلدتم الزانية والزاني فاجلدوا الخ وهو لا يدل على الوجوب المراد؛ وقيل دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الاجمال في قوله تعالى: {فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ويجوز أن تكون عاطفة والمراد جلد بعد جلد وذلك لا ينافي كونه مفسرًا للمعطوف عليه لأنه باعتبار الاتحاد النوعي انتهى.
وأنت تعلم أنه لم يعهد العطف بالفاء فيما اتحد فيه لفظ المفسر والمفسر وقد نصوا على عدم جواز زيدًا فضربته بالاتفاق فلو ساغ العطف فيما ذكر لجاز هذا على معنى ضرب بعد ضرب، على أن كون المراد فيما نحن فيه جلد بعد جلد مما لا يخفى ما فيه فالظاهر ما نقل عن ابن جني، والمشهور أن سيبويه.
والخليل يفضلان قراءة النصب لمكان الأمر، وغيرهما من البصريين والكوفيين يفضلون الرفع لأنه كالإجماع في القراءة وهو أقوى في العربية لأن المعنى عليه من زنى فاجلدوه كذا قال الزجاج، وقال الخفاجي بعد نقله كلام سيبويه في هذا المقام: ليس في كلام سيبويه شيء مما يدل على التفضيل كما سمعت بل يفهم منه أن الرفع في نحو ذلك أفصح وأبلغ من النصب من جهة المعنى وأفصح من الرفع على أن الكلام جملة واحدة من جهة المعنى واللفظ معًا فليراجع وليتأمل.
والجلد ضرب الجلد وقد اطرد صوغ فعل المفتوح العين الثلاثي من أسماء الأعيان فيقال رأسه وظهره وبطنه إذا ضرب رأسه وظهره وبطنه، وجوز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه ضربه بالعصا، والمراد هنا المعنى الأول فإن الأخبار قد دلت على أن الزانية والزاني يضربان بسوط لا عقدة عليه ولا فرع له، وقيل: إن كون الجلد بسوط كذلك كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة وأما قبله فكان تارة باليد وتارة بالنعل وتارة بالجريد الرطبة وتارة بالعصا، ثم الظاهر من ضرب الجلد أعم من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة، وزعم بعضهم وليس بشيء أن الظاهر أن يكون بلا واسطة وأنه ربما يستأنس به لما ذهب إليه أصحابنا وبه قال مالك من أنه ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به، وعن الشافعي، وأحمد أنه يترك عليه قميص أو قميصان، وروى عبد الزراق بسنده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد، وأما الإمرأة فلا ينزع عنها ثيابها عندنا إلا الفرو والمحشو ووجهه ظاهر.